ريان الشيباني
لم أعد أمتلك طاقة إضافية لهجاء الإعلام، في ذكرى وفاة المناضل على صالح عباد (مقبل)، ذلك أن معركتنا -على أية حال- ليست مع الإعلام أيًا كان توجهه. لكن أعتقد أن العودة إلى تناولاته السياسية بداية القرن، يمكن أن تميط اللثام عن الدور الذي أنيط به في التهيئة للخراب.
قبل أيام قليلة، دعانا أصدقاء للاستماع لمقابلة أمين عام الحزب الاشتراكي -حينها- علي صالح عباد (مقبل) مع قناة الجزيرة، والتي أجريت في مطلع سبتمبر/ أيلول 1999، ولم أكن لأعرف أن ساعة من الانصات، يمكن أن تسبب لي ذلك الشعور بالصداع والضيق، خاصة وأن المسافة بين وقت المقابلة وما نحن فيه، كافية لأن تضع العربة على السكة.
أوعزت قناة الجزيرة لمذيعها سيء الصيت، أحمد منصور، مهمة إجراء اللقاء مع عُباد، ضمن استراتيجية القناة للتعريض بمن تعتقدهم الخصوم الإيديولوجيين لاستراتيجيتها بعيدة المدى في تمكين الإسلاميين من الحكم. دخل أحمد منصور بسمت رجل الجماعة الذي في عنقه قسمًا مغلظًا على السمع والطاعة، وبسكاكين لسانه السليط، وثقافته العدوانية التي تنظر إلى كل ما هو يساري، مدنس وآثم بالضرورة.
ولهذا الإعلامي الدّعي، كثير من جولات الاشتباك مع الخصوم (الايديولوجيين) إلى الدرجة التي ينسى فيها أنه إعلامي، إذ منوط به -إلى جانب كونه ناقلًا أمينًا لمسلمات جماعة الإسلام السياسي- أيضاً سحق ومحاصرة الشخصيات التي لا يجب أن يكون على وفاق فكري معها، وهنا يمكن العودة إلى مقابلاته الكثيرة على موقع يوتيوب (مع صائب عريقات أنموذجًا)، ورؤية الدعة التي يتحلى بها عندما يتعلق الأمر بأتباع جماعته.
في الفترة ذاتها التي تم إجراء المقابلة فيها، كانت سلطة حزب الإصلاح متماهية تمامًا مع سلطة الحزب الحاكم حينها (المؤتمر)، ما جعل الحقيقة -كما هي العادة- تحتكر في صف هؤلاء الفصيلين، على إن كل الذين يريدون الدخول إلى الانتخابات من باب المعارضة الحقيقية أشخاص متهمون بالضرورة، في وطنيتهم ودينهم، عوضًا عن أن تكون اشتراكيًا داخل هذه المعادلة.
لذلك، هيأت أسباب المقابلة الصحفية كلها، للثأر من شخصية عُباد التي تجرأت على محاولة الدخول في المنافسة الانتخابية. تم تلقين أحمد منصور الحقيقة من طرف حزبي الإصلاح والمؤتمر، وتبني خطابهم بشكل كامل، مستهدين بثقافة الشعور بالانتصار التي كرستها حرب صيف 94، وبتحالف إقليمي واسع، يمكن رؤيته مصغرًا من خلال الأطراف التي تناوبت النهش في شخصية عُباد وخطابه.
التاريخ المنتقى بعناية، أيضًا ثيمة أساسية في معركة منصور ضد خصومه السياسيين، إذ أنه معد سلفًا لإظهار اليسار، وكأنه منظومة منبتة عن المجتمع، وتعمل بالضرورة ضد مصالحه، إلى جانب قناعات أخرى، ليس أقلها تسطيحًا الذهاب نحو جعل “الرفاق” ثلة من المتآمرين على أنفسهم، إضافة إلى نية التكفير المضمرة، التي تضع اليسار في حكم الملحدين والسكارى، ما يعطي الصحفي (الإخواني) الحق الحصري في التنكيل بهم، وتلقينهم ما يستحقون من دروس الوطنية والإسلام.
لكن -للمفارقة العجيبة- أن المقابلة التي اعتبرت حينها انتصارًا سياسيًا كاسحًا لتحالف الحكم (7/7)، وأثارت موجة من السخرية من اللغة الابينية الصديقة، نرى كيف أن التقادم أكسبها قيمة عظيمة، وأعطت صورة جلية عن نوع السياسي النظيف الذي كانه عباد، وهو يقف وحيدًا ومجردًا إلا من قيمه، في مواجهة آلة سياسية وإعلامية داخلية وإقليمية.
يمكن فقط التفتيش في المداخلات التي تخللت الحلقة، لرؤية كيف تم الحوار، وما الحقيقة التي أرادوا تكريسها في ذلك الوقت. من ياسر اليماني إلى سلطان البركاني ومن لف لفهم من متهافتي النظام السابق. حتى وجهة الاتصالات، كانت مكرسًة لخدمة تحالف بدا وكأنه خليجًيا -على ما في دول الخليج من تباينات- لتمكين صالح من الحكم، باعتباره الأداة الأسلم لتمكين الإسلاميين من السلطة.
أكتب هذا، ليس على سبيل التشفي، أو الحقد، بالقدر الذي يشعر فيه المرء بالغبن، عن الكيفية التي تم فيه جر المنطقة إلى الفوضى، لتبدو هذه الفوضى في النهاية وكأنها صنيع لون واحد من الناس، أما إذا نظرنا للأمر بمقاييسنا الوطنية، وما يجب أن نكون عليه، فيكفينا وضع تساؤلات قليلة على الطاولة: ما وزن البركاني واليماني وحتى صالح، لو قارناهم بعُباد، وأي قيمة يمثلها البيدق أحمد منصور، وقد انتهت فذلكاته إلى ما هو عليه من التندر والبؤس.